الرقابة القضائية على التحكيـم في المملكة العربية السعودية


مقدمة
يعد التحكيم أحد الوسائل البديلة لتسوية المنازعات ويعد من أكثرها تطبيقًا في الواقع العملي، نظرًا لما للتحكيم من المزايا التي لا تتوفر في قضاء الدولة عادة، والتي تشجع الأطراف على اتخاذ التحكيم وسيلة لحل النزاع القائم أو الذي سيحدث مستقبلًـا، ولما للتحكيم من أهمية بالغة كان لا بد من تدخل الدولة بالرقابة على العملية التحكيمية، وذلك من خلال السلطة القضائية، الأمر الذي يقود إلى البحث حول هذه الرقابة القضائية على التحكيم من خلال البحث أولًـا: عن أنواع الرقابة القضائية على التحكيم، ثانيًا: التطبيق العملي لرقابة القضاء في المملكة العربية السعودية على التحكيم.

أولًا: أنواع الرقابة القضائية على التحكيم
الرقابة القضائية علي التحكيم ليست على نوع واحد، فقد تكون هذه الرقابة سابقة على حكم التحكيم، أو قد تكون لاحقة على حكم التحكيم، وهي على التفصيل الآتي:
1.   الرقابة القضائية السابقة على حكم التحكيم:
 يمر التحكيم بالعديد من المراحل ابتداء من عقد اتفاق التحكيم و وصولًا إلى حكم التحكيم، وبالتالي فإنه يسبق إصدار حكم التحكيم العديد من الإجراءات، والأصل أن يتم تعيين والاتفاق على هذه الإجراءات من قبل الأطراف، وينبثق ذلك باعتبار أن التحكيم قائم على الرضائية حيث يتفق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم بإرادتهم المنفردة[1]).
إلا أنه قد يتدخل القضاء في التحكيم قبل بداية عملية التحكيم كما لو ثار نزاع حول مسألة ما أمام القضاء بالرغم من وجود اتفاق التحكيم يتعلق بهذه المسألة، فإن القضاء في هذه الحالة  يتدخل، وذلك متى ما تحققت المحكمة من وجود هذا الاتفاق، وبالتالي فإن المحكمة تحكم بعدم جواز نظر الدعوى ([2])، وقد أكد نص نظام التحكيم السعودي في المادة (١١/١) والتي تنص على:« ١- يجب على المحكمة التي يرفع إليها نزاع يوجد في شأنه اتفاق تحكيم أن تحكم بعدم جواز نظر الدعوى إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل أي طلب أو دفاع في الدعوى»، وعلى ضوء المادة السابقة فإنه يشترط لإعمال تدخل المحكمة بعدم جواز نظر الدعوى أن يكون هناك طلب مقدم من قبل المدعى عليه، فلا تحكم به المحكمة من تلقاء نفسها، وبالتالي إذا لم يدفع المدعى عليه واستمر في الدعوى فإنه يعد تنازلًـا عن اتفاق التحكيم وينعقد الاختصاص للقضاء([3]).
كما قد تظهر الرقابة القضائية للتحكيم بصورة تدخل للمساعدة في نظام التحكيم السعودي في  الآتي:
-        في حالة عدم تعيين الهيئة التحكيمية من قبل الأطراف أو عدم اتفاقهم فإن المحكمة المختصة تقوم بتعيينهم ([4]) ، وتقوم بتحديد أتعاب المحكمين ([5]).
-       رد المحكم إذا لم يتفق الأطراف حول إجراءات رد المحكم، وتم تقديم طلب للرد إلى هيئة التحكيم ورفض طلب رد المحكم، هنا يحق لطالب الرد أن يقدم طلبه إلى المحكمة المختصة خلال ثلاثين يومًا، ويكون الحكم غير قابل للطعن بأي طريق من طرق الطعن ([6]).
-       إذا قدم أحد طرفي التحكيم أو الهيئة التحكيمية قبل البدء في إجراءات التحكيم طلب للمحكمة المختصة باتخاذ تدابير مؤقته أو تحفظيه ([7]).
-       في حالة طلب الهيئة التحكيمية من المحكمة المختصة الأمر بالإنابة القضائية([8]).
-       في حالة عدم اتفاق أطراف التحكيم والمحكمين على تحديد أتعاب المحكمين، فالمحكمة المختصة تصدر قرارًا فيه تحديد أتعاب المحكمين([9]).
-       إذا تشعبت أراء هيئة التحكيم وتعذر حصول الأغلبية، ومضى (١٥) يومًا من قرارها بتعذر الأغلبية فالمحكمة تقوم بتعيين محكم للترجيح في المسألة([10]).
-       إذا تجاوزت هيئة التحكيم المدة المحددة من أجل الفصل في الدعوى التحكيمية سواء كان منصوصًا عليه في اتفاق التحكيم، أو المدة المقررة في نظام التحكيم للفصل في الدعوى في حالة غياب اتفاق الأطراف ([11])
وعلى ضوء ذلك تتضح مسألة الرقابة السابقة لحكم التحكيم، والتي يستخلص منها أن النظام حددها على سبيل الحصر لا المثال، وإلا لتجاوزت سلطة المحكمة في مسألة الرقابة لتصل إلى أبعد من ذلك الأمر الذي يؤثر ذلك على خاصية مهمة باعتباره نظام قضائي خاص من حيث اتجاه إرادة الأطراف إلى اختيار التحكيم كنظام قضائي من نوع خاص بعيدًا عن قضاء الدولة([12])، فضلـًا أن توسيع نطاق الرقابة القضائية بشكل مبالغ فيه قد يؤدي إلى فقدان الثقة بأحكام التحكيم، وبالتالي كان لازمًا أن يتم تضييق مسألة الرقابة في أضيق الحدود([13]).
2.    الرقابة القضائية اللاحقة على حكم التحكيم:
تعد إرادة الخصوم هي الأساس الذي ترتكز عليه أحكام التحكيم، إلا أنها لا تستطيع تزويد هذه الأحكام بالقوة التنفيذية ليصبح سندًا تنفيذيًا وبالتالي يمكن معها التنفيذ الجبري، وعليه فإن أحكام التحكيم ما هي إلا أحكام مجردة خالية من القوة التنفيذية([14])، باعتبار أن القوة التنفيذية لا تكون لحكم التحكيم إلا بقرار من قضاء الدولة والذي  يستمدها من سلطة الدولة([15])، وبناء على ذلك يتثمل مضمون الرقابة القضائية بإعطاء الصفة الإلزامية لحكم التحكيم، حتى يدخل حيز التنفيذ، ويكتسب حجية الأمر المقضي، من خلال الرقابة على الحكم من حيث التأكد من سلامة الإجراءات المتعلقة به حتى يذيل بالصيغة التنفيذية([16]).
والهدف من هذه الرقابة هو تحقق قضاء الدولة من خلو حكم التحكيم من العيوب الجوهرية، وانتفاء ما يمنع تنفيذه دون أن النظر إلى موضوع التحكيم، وبالتالي فإن الرقابة التي يمارسها القضاء ما هي إلا رقابة خارجية شكلية، ومتى ما تحقق قضاء الدولة من سلامة حكم التحكيم يذيل بالصيغة التنفيذية (أمر التنفيذ) ويصبح سندًا تنفيذيًا ([17]).
وقد تكون الرقابة القضائية اللاحقة على حكم التحكيم قد تكون:
-        رقابة إلغاء: معنى إلغاء الحكم الصادر من هيئة التحكيم، دون الحق في إصدار قرار يحل محل قرار التحكيم الملغي([18])، ولا يجوز للمحكمة أن تقوم بإلغاء حكم التحكيم  إلا عن طريق دعوى البطلان ([19]) متى ما توافرت أحد حالات البطلان المنصوص عليها في المادة (٥٠) من نظام التحكيم السعودي، والتي ذكرت على سبيل الحصر لا المثال.
-       رقابة التعديل: وهي أن تقوم المحكمة بتعديل حكم التحكيم الذي شابه دون إلغاءه، وذلك من أجل التصديق عليه من المحكمة ليكتسب القوة التنفيذية ، مع الإشارة إلى أن هذه الرقابة تباشرها المحكمة من تلقاء نفسها، وهي محصورة بما نص عليه القانون ([20]).
-       رقابة التصديق: وهو «الإجراء الذي يصدر من القاضي المختص قانونًا بمقتضاه يتمتع حكم المحكمين وطنيًا كان أو أجنبيًا بالقوة التنفيذية»([21]).
وأخيرًا فإنه يستخلص مما سبق أن الرقابة اللاحقة تتمثل في الرقابة الشكلية الخارجية لحكم التحكيم دون جواز النظر إلى موضوع نزاع التحكيم، من ثم إسباغه بالقوة  التنفيذية، وقد تكون هذه الرقابة إما رقابة إلغاء، أو تعديل، أو تصديق.

ثانيًا: التطبيق العملي لرقابة القضاء في المملكة العربية السعودية على التحكيم
وتطبيقًا على ما سبق فيما يتعلق بالرقابة القضائية للتحكيم، وبالرجوع إلى الأحكام القضائية في المملكة العربية السعودية ، جاء في تسبيب أحد الأحكام القضائية المتعلقة بالاعتراض على حكم هيئة التحكيم من قبل أحد الأطراف والتي نُص فيها على الآتي:« ... تتضمن المطالبة بإعادة بحث ما سبق للهيئة أن بحثته في حكمها، وناقشت الأطراف فيها، وندبت الخبرة المحاسبية لاستجلاء ما جاء من ملاحظات عليه من الأطراف، واستكمل الخبير الجوانب المبنية في تقريره، وما لحقه من تعديلات وإيضاحات وفقًا لما ورد في حكم الهيئة وتقرير الخبير ومحلقاته، وعليه فإن إعادة بحث ما سبق بحثه، يعد تفريغًا للتحكيم من مضمونه، وتعقيبًا على الاجتهاد باجتهاد آخر وهو ما لا يسوع، والأصل في الرقابة القضائية على أحكام التحكيم التقييد لا الإطلاق، والأصل فيها أن تكون على مراقبة ما قد يشتمله الحكم التحكيمي من مخالفة شرعية أو نظامية من شأنها الإخلال بحقوق المتقاضيين عند نظر الدعوى، وهو ما لم يظهر حصوله مما يجعل من اعتراض المدعى عليه الحاصل في مجمل اعتراضاته المثارة على ما صدر من هيئة التحكيم حري بالرفض ...»([22]).
ويؤكد تسبيب المحكمة موافقته فيما سبق ذكره مسبقًا بأن الرقابة القضائية، ما هي إلا رقابة شكلية خارجية، لا يجوز أن تمس موضوع حكم التحكيم، ما لم يقع فيه مخالفة شرعية أو نظامية.
خاتمـة

            ومما سبق يتضح أن الرقابة القضائية على التحكيم قد تكون رقابة سابقة على حكم التحكيم، وتتمثل بتدخل المحكمة بعدد من الأمور نص عليها نظام التحكيم السعودي وتكون قبل صدور الحكم التحكيمي، وقد تكون الرقابة لاحقه على حكم التحكيم، والتي قد تكون رقابة إلغاء، أو قد تكون رقابة تعديل، أو رقابة تصديق، وعلى كل حال فإن هذه الرقابة تكون منصوص عليها في أحكام النظام الأمر الذي يؤكد بأن هذه الرقابة بكافة صورها وأشكالها ما هي إلا رقابة محدودة ومقيدة، حتى لا تنال هذه الرقابة من فكرة التحكيم، وأخيرًا تدعيم مسألة أن الرقابة القضائية تشكل رقابة شكلية خارجية دون التعرض لموضوع النزاع بتطبيق عملي يمثل حكم قضائي.



وفي الختام أسأل الله أني وفقت في استعراض الرقابة القضائية على التحكم، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.




([1]) محمود عمر محمود، نظام التحكيم السعودي، خوارزم العلمية، الطبعة الثانية، ١٤٣٦هـ - ٢٠١٥م، ص٣٩.
([2]) عزيز اودوني، الرقابة القضائية على عملية التحكيم، مجلة القانون والأعمال، العدد (٢٨)،  ٢٠١٨م، ص١٢٢.
([3]) محمود عمر محمود، مرجع سابق، ص٩٥.
([4]) المادة (١٥) من نظام التحكيم.
([5]) المادة (٢٤) من نظام التحكيم.
([6]) المادة (١٦) من نظام التحكيم.
([7]) المادة (٢٢) من نظام التحكيم.
([8]) المادة (٢٢) من نظام التحكيم.
([9]) المادة (٢٤) من نظام التحكيم.
([10]) المادة (٣٩) من نظام التحكيم.
([11]) المادة (٤٠) من نظام التحكيم.
([12]) أحمد عبد الكريم سلامة، قانون التحكيم التجاري الدولي والداخلي، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠٠٤م، ص٤٩.
([13]) ماهر مصطفى محمود، الرقابة القضائية على حكم التحكيم، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات- دمنهور، العدد الثاني - المجلد التاسع، ٢٠١٧م، ص٢٦٨.
([14]) محمود السيد التحيوي، التحكيم في المواد المدنية والتجارية وجوازه في منازعات العقود الإدارية، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية، لا يوجد رقم طبعة، ١٩٩٩م، ص٢١٤.
([15]) أحمد السيد أبو الخير، الوجيز في نظام التنفيذ القضائي الجبري، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، ١٤٣٨هـ - ٢٠١٢م، ص١٢٢، نقلًا عن: فتحي والي (قانون التحكيم في النظرية والتطبيق)، منشأة دار المعارف، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م، ص٤٨١.
([16]) عبد الله بن محمد أبا الخيل، الرقابة القضائية على التحكيم في المملكة العربية السعودية- دراسة مقارنة-، مجلة قضاء، العدد الأول، ٢٠١٢م، ص١٧٤.
([17]) محمود السيد التحيوي، مرجع سابق، ص٢١٤-٢١٥.
([18]) عبد الله بن محمد أبا الخيل، مرجع سابق، ص٢٠٦.
([19]) المادة (٤٩) من نظام التحكيم.
([20]) عبد الله بن محمد أبا الخيل، مرجع سابق، ص٢١٥ وما بعدها.
([21]) المرجع السابق، ص٢٢٤، نقلًا عن: د. آمال الفزابري: مرجع سابق، أحمد سعيد المومني: مرجع سابق،ص١٢٦.
([22])حكم محكمة الاستئناف، رقم حكم الاستئناف (١٧١/٢)، عام ١٤٣٣هـ، منشور في مجموعة الأحكام والمبادئ التجارية، ص٤٠٠ وما بعدها.

تعليقات